إن كنت مُتابعًا لأخبار التقنية عن كثب فربما لفت انتباهك خبر مفاده إعلان شركة آبل عن تقديم مكافأة ضخمة تصل إلى مليون دولار أمريكي لأي شخص قادر على اختراق الخوادم السحابية لنظام الذكاء الاصطناعي Apple Intelligence والتي تتولى تشغيل مزايا هذا النظام عندما لا تكون قدرات الجهاز كافية لتنفيذ المهام محليًا. بالطبع الأمر يبدو مُغريًا ويُظهر جدية الشركة في الحفاظ على أمان نظامها الجديد، ولكن آبل ليست وحدها التي تقدم هكذا مكافآت، بل تعُد من بين الشركات التي تتبنى برنامج معروف في ساحة الأمن السيبراني يُسمى «Bug Bounty Program» وتتجلى أهمية هذه البرامج في الأرقام المذهلة التي تكشف عنها الشركات التقنية الكبرى، حيث قدمت شركة جوجل وحدها ما يقارب 12 مليون دولار كمكافآت لأكثر من 700 باحث أمني من 68 دولة خلال عام 2022. هذا الرقم يمثل قفزة نوعية مقارنة بعام 2015 الذي شهد توزيع مليوني دولار فقط، مما يعكس التطور الهائل في أهمية هذه البرامج وحجم الاستثمار فيها لتأثيرها على ردع مجرمي الإنترنت والقراصنة، فدعونا نشارك معكم ماهية هذه البرامج وآلية عملها.
مكافآت صيادو الثغرات !
برامج مكافآت الثغرات الأمنية: ما هي ومعايير المشاركة؟
تمثل برامج مكافآت اكتشاف الثغرات الأمنية نموذجًا مبتكرًا للتعاون بين الشركات التقنية ومجتمع الباحثين الأمنيين. وتقوم فلسفة هذه البرامج على مبدأ التكافل المهني، حيث تقدم الشركات مكافآت مالية مجزية للقراصنة الأخلاقيين، المعروفين أيضًا باسم White Hat أو قراصنة القبعات البيضاء، مقابل اكتشافهم الثغرات الأمنية ونقاط الضعف في أحد أنظمتها وتطبيقاتها أو مواقع الويب التابعة لها ثم الإبلاغ عنها ليقوم فريق الأمان الرقمي لدى الشركة بدوره العمل على سد الثغرة بنجاح. وبالتالي تسهم هذه البرامج بشكل مباشر في تعزيز الأمن لنظم الشركات بشكل مستمر مع مرور الوقت، بالإضافة إلى حماية بيانات العملاء وضمان أمانها، ما يقلل من خطر استغلال الثغرات من قبل جهات خبيثة قد تسبب أضرارًا تتجاوز تكاليف إصلاحها المبالغ المدفوعة للباحث الأمني نفسه.
ومن حيث آلية العمل، فبرامج مكافآت الثغرات الأمنية عادًة ما تتبع منهجية عمل محكمة تبدأ بتحديد الشركات لأنواع الثغرات المستهدفة والمناطق المسموح اختبارها في أنظمتها وسلم المكافآت المرتبط بخطورة كل ثغرة. بعد ذلك، يُتاح للباحثين الأمنيين والقراصنة الأخلاقيين الوصول إلى نظام الشركة أو منتجها لاكتشاف أي Bugs أو نقاط ضعف، ثم يقوم الباحثون الأمنيون بعد ذلك بتقديم تقارير مفصلة عن الثغرات المكتشفة إلى فريق الأمن السيبراني في الشركة المعنية والذي يقوم بالتحقق من المشكلة أولاً، وبعدها يتم تقديم المكافأة المالية للباحث.
وتتميز برامج مكافآت إكتشاف الثغرات الأمنية بمرونتها في استقطاب المواهب، حيث تفتح أبوابها للباحثين من مختلف المستويات، من المبتدئين إلى الخبراء. غير أن هذا الانفتاح يأتي مقرونًا بضوابط صارمة تضمن نزاهة العملية وفعاليتها. صحيح تتطلب بعض الشركات مستوى معينًا من الخبرة، لكن العديد من هذه البرامج تكون مفتوحة لأي شخص مستعد لبذل الوقت والجهد اللازمين لاكتشاف الثغرات في الموقع او النظام أو التطبيق المُتاح ضمن البرنامج. إضافةً إلى ذلك، يمكن أن تتراوح المكافآت من مجرد بضع مئات من الدولارات إلى مئات الآلاف، بناءً على مدى خطورة الثغرة الأمنية المطلوب إكتشافها. كما تضع معظم الشركات قيودًا على مشاركة موظفيها الحاليين والسابقين وأفراد عائلاتهم في هذه البرامج، حفاظًا على الشفافية وتجنبًا لتضارب المصالح.
الأهمية المتزايدة لبرامج اكتشاف الثغرات الأمنية
يشهد عصرنا الحالي تصاعدًا غير مسبوق في أهمية برامج مكافآت إكتشاف الثغرات الأمنية، مدفوعاً بعدة عوامل رئيسية. فمع ارتفاع أعداد الهجمات السيبرانية وخروقات البيانات وتزايد تعقيد تلك الهجمات وتطور أساليبها من قبل مجرمي الإنترنت، أصبحت الحاجة ملحة إلى توسيع دائرة البحث عن الثغرات الأمنية بحيث لم تعد فرق الأمن الرقمي داخل الشركات كافية لمواكبة هذا التطور السريع. لذلك تُمكّن هكذا برامج الشركات من الاستفادة من مجتمع واسع من "القراصنة الأخلاقيين" ممن يتمتعون بمعرفة وخبرة لتحديد نقاط الضعف المحتملة والإبلاغ عنها قبل أن يتم استغلالها من قبل الفريق الآخر — الـ Black Hat.
ونظرًا للمكافآت الضخمة التي تقدمها الشركات – لاسيما الشركات التقنية الكبرى مثل مايكروسوفت وآبل وجوجل وميتا – والتي تحفز الباحثين الأمنيين للحصول على تعويض مادي مناسب عند العثور على الثغرات بشكلٍ شرعي وقانوني، لاقت هذه البرامج شعبية واسعة. بالإضافة إلى كونها توفر للشركات حلاً فعالاً من حيث التكلفة لتعزيز وضع الأمن السيبراني الخاص بها، وقد ظهر ذلك جليًا في أزمة كورونا 2020 التي ساهمت في حدوث زيادة كبيرة في الهجمات السيبرانية على الشركات، مما دفعها لرفع مكافآت اكتشاف الثغرات بنحو غير مسبوق. إذ أفاد تقرير نشرته منصة HackerOne – إحدى أبرز منصات إدارة برامج مكافآت اكتشاف الثغرات – وذلك في عام 2020 أن فترة الجائحة شهدت زيادة ملحوظة في نشاط هذه البرامج، مع ارتفاع نسبة المشاركين الجدد بنسبة 59%، وزيادة في تقارير الثغرات المكتشفة بنسبة 28%.
وقد شهدت سوق أدوات القرصنة – التي عادًة ما تكون مدعومة من الحكومات – المتخصصة في استغلال ثغرات الهجوم المباشر وهجمات اليوم صفر ارتفاعًا ملحوظًا في قيمتها، حيث أصبحت تقدر بملايين الدولارات. ويعود هذا الارتفاع إلى تزايد صعوبة اختراق الأجهزة والتطبيقات الحديثة، بما فيها هواتف آيفون وأندرويد، ومتصفحات الويب المعروفة كسفاري وكروم، وتطبيقات المراسلة مثل واتساب وآي مسج. وفقًا لقائمة أسعار شركة Crowdfense فإن مكافآت اختراق هواتف آيفون باتت تتراوح بين خمسة وسبعة ملايين دولار، في حين تصل قيمة اختراق هواتف أندرويد إلى خمسة ملايين دولار. أما متصفحات الويب فتبلغ مكافآت اختراقها ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار، بينما تتراوح مكافآت اختراق تطبيقات المراسلة الشائعة مثل واتساب وغيره بين ثلاثة وخمسة ملايين دولار.
برامج اكتشاف الثغرات = استثمار استراتيجي في الأمن
تمثل برامج مكافآت إكتشاف الثغرات الأمنية نموذجًا اقتصاديًا فعالاً للشركات، بحيث يساعدها توفيره على تعزيز أمنها السيبراني بأقل تكلفة ممكنة. كما أشرنا، يشارك في هذه البرامج قراصنة محترفون يسعون لتحقيق مكاسب مالية عبر قنوات شرعية، ويعملون وفق ضوابط وشروط محددة تضعها الشركات المستهدفة. وتكمن غايتهم الأساسية في الكشف عن الثغرات الأمنية وإبلاغ الشركات عنها، بدلاً من استغلالها في أنشطة غير مشروعة قد تتأثر بها هذه الشركات ماديًا بشكل هائل. لذلك تمثل برامج المكافآت خيارًا اقتصاديًا أكثر فاعلية للشركات، مقارنة بالتكاليف الباهظة المترتبة على توظيف كوادر أمنية إضافية بدوام كامل.
على سبيل المثال، استثمرت شركة Epic Games نحو 4 ملايين دولار في برنامجها، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بإيراداتها السنوية وبتكلفة الأضرار المحتملة من الهجمات السيبرانية. كما تتجه بعض الشركات مثل IBM إلى تقديم حوافز غير مالية، كإدراج أسماء الباحثين في لوحات الشرف الخاصة بها، مما يعزز مكانتهم المهنية في مجتمع الأمن السيبراني.
التطورات المستقبلية والتحديات
من الواضح أن مجال برامج مكافآت الثغرات الأمنية يشهد تطورًا مستمرًا بفعل تطور الهجمات السيبرانية مصحوبًا بتوجه الشركات نحو رفع قيمة المكافآت بشكل غير مسبوق. وتعد مبادرة شركة آبل الأخيرة، بتقديم مكافأة تصل إلى مليون دولار لاختراق خوادم نظام ذكائها الاصطناعي، مؤشراً على المستقبل المتنامي لهذه البرامج. ومع تزايد أهمية الأمن السيبراني في عصر الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، من المتوقع أن تستمر هذه البرامج في التطور والتوسع.
بشكل عام، تمثل برامج مكافآت الثغرات الأمنية نموذج ناجح يعتمد على تعاون بين الشركات التقنية ومجتمع الباحثين الأمنيين. وفي ظل التحديات الأمنية المتزايدة، تبرز هذه البرامج كاستراتيجية فعالة لتعزيز الأمن السيبراني وحماية البنية التحتية الرقمية. ومع استمرار تطور التهديدات الأمنية، ستظل هكذا برامج عنصرًا لا غنى عنه في منظومة الأمن السيبراني العالمية.