بالتأكيد
لوحة المفاتيح
جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، نستخدمها بشكل متكرر، سواء كنا نعمل على
الكمبيوتر أو
نتواصل عبر هواتفنا الذكية، لدرجة أن الكثيرون بات بإمكانهم الكتابة باستخدامها
دون النظر إلى الأحرف حتى. ومع ذلك، هل توقفنا يومًا لنتساءل عن سبب ترتيب الأحرف بهذه الطريقة التي قد
تبدو عشوائية للوهلة الأولى؟ ألم يكن غريبًا أن لوحة تحمل أحرف الكتابة ليست
مرتبة أبجديًا؟ أعتقد أن هناك من خطر بباله هذا الأمر يومًا، ولكن
تصميم QWERTY
المستخدم حاليًا ليس عشوائيًا على الإطلاق بل يحمل غايات مختلفة تجعله أفضل
بمراحل مما لو تم ترتيب الأحرف أبجديًا. لذلك دعونا نستهل السطور التالية لنغوص
في أعماق تاريخ لوحة المفاتيح، ونستكشف الأسباب وراء تصميمها الحالي، ونناقش
البدائل المحتملة.
الترتيب الأبجدي للوحات المفاتيح
صف الأحرف العربية أو الإنجليزية، أيًا كانت، على لوحة المفاتيح بشكل أبجدي تبدو
جيدة كفكرة، حيث ستساعد الأشخاص على معرفة وتوقع أماكن الحروف بسهولة إلى حدٍ ما،
مما يقلل من حيرتهم إذا كانوا يتعاملون مع الكيبورد لأول مرة. ولكن، في الواقع لا
تأخذ تصميمات لوحات المفاتيح أهمية سرعة الاعتياد والتأقلم بجدية بقدر سرعة
الكتابة من حيث سهولة الوصول إلى الأحرف، والتي تشكل أولوية قصوى هنا.
إذا تخيلت أو حتى حاولت بطريقة ما تعديل تصميم الكيبورد الخاص بك لرص الأحرف
أبجديًا ثم حاولت استخدامها لكتابة نص ما، ستكتشف أن سرعة الكتابة منخفضة للغاية.
وحتى لو كان أول كيبورد استخدمته مرتبًا أبجديًا، فإن طريقة الكتابة لن تكون
مريحة عمومًا، بعكس لو كان الترتيب يستند إلى جعل الأحرف الأكثر استخدامًا موضوعة
في الأماكن الأسهل للوصول بالنسبة لأطراف أصابعنا، وهو بالضبط ما تعتمد عليه
تصميمات لوحات المفاتيح الحالية.
إذا أخذنا تصميم QWERTY للغة العربية كمثال، نجد أن حرف الذال يبدو وكأنه
"منفيًا" على أطراف اللوحة! وبالطبع فالسبب هو أنه حرف قليل الاستخدام للغاية،
بينما حرف الأَلِف تجده بمنتصف اللوحة كما لو كان "لوحة موناليزا" نظرًا لأنه
الأكثر استخدامًا على الإطلاق في اللغة العربية. تصور لو كان الترتيب أبجدي! سيصبح هذا الحرف بعيدًا للغاية عن الأصابع، ما
يجعل الكتابة تبدو أبطأ.
نظرة تاريخية على لوحة المفاتيح وظهور تصميم QWERTY
تعود قصة لوحة المفاتيح الحالية إلى عصر الآلات الكاتبة في القرن التاسع عشر. في
ذلك الوقت، كانت الآلات الكاتبة تعتمد على نظام ميكانيكي معقد، حيث كان كل حرف
مرتبطًا بذراع معدني يضرب الورقة عند الضغط على المفتاح. هذا التصميم، رغم كونه
ثوريًا في حينه، كان يعاني من مشكلة رئيسية: عند الكتابة بسرعة، كانت الأذرع
المعدنية تميل إلى التشابك والاصطدام، مما يؤدي إلى توقف الآلة وإضاعة الوقت في
فك التشابك.
في محاولة للتغلب على هذه المشكلة، قام المخترع الأمريكي كريستوفر لاثام شولز بتطوير تصميم جديد للوحة المفاتيح عُرف لاحقًا باسم QWERTY. هذا الاسم
مشتق من الأحرف الستة الأولى في الصف العلوي من لوحة المفاتيح الإنجليزية. الهدف
الرئيسي من هذا التصميم لم يكن تحسين سرعة الكتابة بشكل مباشر، بل كان الحد من
مشكلة احتكاك أذرع الأحرف في آلات الكتابة. فكرة شولز كانت بسيطة ولكنها فعالة،
حيث تكمن في وضع الأحرف – التي غالبًا ما تأتي متتالية – بعيدة عن بعضها نسبيًا.
وبالفعل، هذا الترتيب قلل من احتمالية اصطدام الأذرع المعدنية المتجاورة. ومع أن
تجربة الكتابة أصبحت أبطأ قليلًا لكن وقتها كان البطء تضحية مقبولة لتجنب الإزعاج
المتكرر الناجم عن تعطل الآلة وتوقفها أثناء إعداد الخطابات والوثائق.
لماذا QWERTY هو السائد، وهل من بدائل؟
قد يتساءل أحدهم: لماذا استمر تصميم QWERTY في الخدمة حتى يومنا هذا، بعد أن عفا
الزمن على الآلات الكاتبة؟ الإجابة تكمن في مزيج من العوامل. أولاً، مع انتشار
آلات الكتابة على نطاق واسع في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،
أصبح الكثير من الناس معتادين على تصميم QWERTY. إذ بدأت المدارس في تدريس
الطباعة (والقصد هنا ليس استخدام الطابعة وإنما إدخال النص باستخدام لوحة
المفاتيح) بالاعتماد على هذا التصميم، والشركات استثمرت في شراء الآلات الكاتبة
بهذا التصميم أيضًا. مع مرور الوقت، تراكمت خبرة هائلة أثناء التعامل مع تصميم
QWERTY، مما جعل تغييره أمرًا صعبًا من الناحية العملية.
ثانيًا، عندما بدأت أجهزة الكمبيوتر في الظهور في منتصف القرن العشرين، كان من
الطبيعي أن يتم تبني تصميم الكيبورد الذي كان الناس معتادين عليه بالفعل مُنذ
سنوات. هذا الانتقال السلس من آلات الكتابة إلى الكمبيوتر رسّخ مكانة تصميم
QWERTY لدرجة جعلته المعيار المعتمد عليه في معظم وسائل كتابة النصوص الحديثة،
بما في ذلك طبعًا لوحة مفاتيح الهواتف الذكية.
لكن رغم هيمنته، لم تتوقف المحاولات لتطوير بدائل عن QWERTY أكثر كفاءة. أحد أشهر
هذه البدائل هو تصميم Dvorak، والذي على عكس QWERTY الذي سمي نسبة إلى ترتيب
حروفه، فإن Dvorak سمي باسم مخترعه،
أوجست ديفوراك، في ثلاثينيات القرن الماضي. يهدف هذا التصميم إلى تحسين سرعة الكتابة وتقليل
إجهاد الأصابع من خلال وضع الأحرف الأكثر استخدامًا في المواقع الأسهل للوصول
إليها، وبالفعل أظهر كفاءته لدرجة أن الكثير من الكلمات يمكن أن تكتب من الصف
الأوسط فقط للوحة المفاتيح!
إذً من الناحية النظرية، يبدو تصميم Dvorak أكثر منطقية وكفاءة من QWERTY من حيث
تقليل حركة الأصابع ويزيد من سرعة الكتابة. ومع ذلك، فإن انتشار هذا التصميم،
بالإضافة إلى تصميمات أخرى ظهرت أيضًا مثل AZERTY ظل محدودًا للغاية مقارنة
بلوحات مفاتيح QWERTY المتزعمة.
تحديات استبدال QWERTY بتنسيق آخر
هناك عدة أسباب تجعل من الصعب لتصميم QWERTY أن يفسح المجال لتصميمات أخرى، أهمها
بطبيعة الحال هو العادة والتعود، فمع وجود مئات الملايين يستخدمون لوحات المفاتيح
بشكل يومي والاعتياد على ترتيبها الحالي لسنوات، سيكون من الصعب إقناعهم
بالاعتماد على ترتيب آخر، فضلًا عن إقناع الشركات أصلًا لإنتاج لوحات مفاتيح
بتنسيق جديد. لذا فالاعتياد هو الحليف الأول لـ QWERTY حيث أن أمهر وأسرع مستخدمي
لوحات المفاتيح لن يتمكنوا من التعود على تنسيق كتابة غيره بين ليلة وضحاها، إذ
يستلزم الأمر عدة أشهر من الاستخدام والتدريب للتعامل مع لوحة مفاتيح بترتيب
مختلف، وهو شيء لا يستحق العناء بالنسبة لمعظم الأشخاص.
وبخلاف التعود، فإن العديد من البرامج وأنظمة التشغيل مصممة مع الآخذ في الاعتبار
سيادة تصميم QWERTY خاصًة فيما يتعلق بالاختصارات، فتخيل صعوبة النسخ واللصق
والقص للنصوص والملفات عند تغير موضع أحرف V و C و X في الكيبورد بترتيب جديد
والتي كانت مجاورة لبعضها وقريبة من مفتاح CTRL في تصميم كويرتي.
لكن رغم الصعوبات، فإن التطور المستمر قد يفتح آفاقًا جديدة لمستقبل تصميم لوحة
المفاتيح لتتكيف مع احتياجات المستخدم وطبيعة اللغة المستخدمة. خواص مثل
النص التنبؤي
والتعرف على الصوت تقدم بدائل جديدة لطريقة الكتابة، مما قد يقلل من أهمية
التصميم التقليدي للوحة المفاتيح في المستقبل. ومع ذلك، يظل من المرجح أيضًا أن
يكون تصميم QWERTY مهيمنًا في المستقبل المنظور، خاصة في لوحات مفاتيح أجهزة
الكمبيوتر.
في النهاية، قصة تصميم لوحة المفاتيح أعتبرها مثال رائع على كيف يمكن لحل تقني
بسيط أن يستمر ويتطور بعيدًا عن الغرض الأصلي المصمم من أجله. بدأ ترتيب QWERTY
كحل لمشكلة آلة ميكانيكية، لكنه تحول إلى معيار عالمي استمر لأكثر من قرن، رغم
أنه ليس الأمثل من حيث الكفاءة أو الأرجونومية، إلا أن استمراره يعكس قوة العادة
والتقاليد في عالم التكنولوجيا.